الحمزة بن عبدالمطلب
ذكرى استشهاد الحمزة بن عبدالمطلب في غزوة أحد سنة3هـ في اليوم 14
بعد أن يئس المشركون من أبي طالب، ومن جميع الوسطاء الذين سمعوا للتوفيق بينهم وبين الرسول، بعد أن يئسوا ورأوا أن الإسلام ماض في طريقه والناس يقبلون عليه يوماً بعد يوم، استقر رأيهم على أن يصعدوا حملات التعذيب والإساءة حتى لمحمد (ص) بالشتم وإلقاء الأوساخ والتراب عليه أينما وجدوه، وتعهدت أم جميل من جهتها أن تتحدى محمداً وزوجته الوفية الصادقة في بيتها المجاور لبيتها، فتلقي على باب البيت وفي طريقهما إليه ما عندها من الأوساخ والأحجار وغير ذلك بقصد الإساءة والإيذاء، وزوجها عبد العزى يتعاهده من ناحيته إذا رآه يصلي أو يسير وحده فيلقي عليه ما يجده من الفراث والدم وخلافهما.
وفي ضحوة يوم من الأيام والنبي جالس في طريق المسعى على صخرة نائية يتأمل ويفكر على عادته، وجاريتان لعبد اللّه بن جدعان ولصفية بنت عبد المطلب يتسامران في مكان مطل عليه، وإذا بالحكم بن هشام وهو منحدر إلى البيت يميل إليه فيشتمه ويسخر منه والسفهاء من حوله يتضاحكون، ونظر محمد (ص) إلى أبي جهل وإلى الذين وقفوا من حوله يتضاحكون ويهزؤون وشكاهم بينه وبين نفسه إلى اللّه، ولم يكتف الحكم بذلك فأخذ حفنة من التراب ووضعها على رأسه، ورأت صفية ومولاة ابن جدعان كل ذلك ورقا له وعز عليهما أن يلقي كل ذلك ومع أنهما لم يؤمنا بمحمد بعد فقد غاظهما أنهما لا تستطيعان الدفاع عنه، ونظرت كل واحدة منهما إلى الأخرى والغيظ والأسى باد عليهما ومضتا في طريقهما تتعثران في سيرهما، وما هي إلا خطوات وإذا بالحمزة يقبل من ناحية الجبل وقد عاد من صيده وقوسه في يده متجهاً نحو البيت والناس ينظرون إليه بإكبار وإعجاب، فأقبلتا عليه وابتدرته مولاة ابن جدعان قائلة وصوتها يتقطع من الغيظ، يا أبا عمارة لو رأيت مالقي ابن أخيك محمد من الحكم بن هشام، فقال لها وماذا لقي منه؟ قالت وجده ههنا جالساً فآذاه وسبه وبلغ منه ما يكره، ثم صمتت كأنها لم تعد تملك أن تتكلم من شدة الدهشة، ومضى حمزة يتيم والغضب باد عليه، واعترضته مولاة صفية، فقالت: يا أبا عمارة لقد صب على رأسه التراب، فقال لها حمزة: أنت رأيت ذلك منه؟ قالت نعم، وانطلق الحمزة مغضباً نحو البيت ينحدر كما تنحدر الصخور من الأعالي لا يكلم أحداً ولا يسلم على أحد ودخل المسجد ينظر في وجوه الناس ليرى الحكم بن هشام فرآه جالساً في وسط القوم فاتجه نحوه حتى إذا كان على رأسه، فالتفت إليه الحكم ورآه يرتعد من الغضب فذعر منه، ثم جذب ثوبه، وقال يا أبا عمارة لقد سفه عقولنا وسب آلهتنا وخالف آباءنا.
فقال له الحمزة: ومن أسفه منكم وأنتم تعبدون الحجارة من دون اللّه؟ ثم رفع قوسه وضربه به على رأسه ضربة شجته شجة منكرة، وصرخ فيه صرخة انخلع لها قلبه وقلوب الناس، ثم رد على ذلك أن استطعت فأنا أشهد أن لا إله إلا اللّه وأن محمداً عبده ورسوله، أتشتمه وأنا على دينه؟
وهب رجال من مخزوم لينصروا أبا جهل، وقالوا لحمزة أنك قد صبأت، ورد عليهم الحمزة بقوله: وما يمنعني من ذلك وقد استبان لي منه أنه رسول اللّه جاء بالحق من عند اللّه فامنعوني إن كنتم صادقين، فقال لهم أبو جهل: دعوا أبا عمارة فإني واللّه استمعت ابن أخيه شيئاً يكرهه، ولم يكن أبو جهل ليطأطىء رأسه للمهانة تصيبه في جسمه ونفسه لو لم يكن على يقين بأن حمزة قادر على أن يقهر هؤلاء الرجال الذين تعصبوا له، ورأى أن يصبر ويكف أصحابه حتى لا يوجه إليه الحمزة ومضى هو مزهواً إلى محمد(ص) بعد أن قهر قريشاً يعانقه والدموع تتساقط من عينيه ويقول أشهد أنك رسول اللّه.
وزلزل هذا الحادث قريشاً وأقض مضاجعهم، لا لأن الحمزة قد ضرب أبا جهل وشجه جزاء لما قدمت يداه، بل لأن إسلام الحمزة الذي أعقب هذا الحادث قد منح محمداً وأتباعه شعوراً بالعزة والمنعة والقوة ما كان هذا الشعور ليحصل لو أسلم غيره مائة من الناس.
وأصبح الذين كانوا قد اعتنقوا الإسلام وتستروا في إسلامهم يتجاهرون به بلا حذر أو خوف بعد إسلام الحمزة، وأقبل على الإسلام جماعة من بني هاشم وبني عبد المطلب يدخلون فيه واحداً بعد واحد حتى أصبح أتباع محمد(ص) قوة يخشاهم المشركون،
مقتل الحمزة بن عبد المطلب
كان حمزة بن عبد المطلب من أعظم أبطال العرب المسلمين وشجعانهم ، وكان قد قتل يوم بدر عتبة ـ أبا هند ـ كما قتل اخاها ، وكان يوم أحد كما كان يوم بدر أسد الله وأسد رسوله ، وسيف الله البتار ، يخوض وسط المشركين ، لا يدنو منه أحداً إلا بعجه بسيفه . قال ابن كثير في البداية : انه كان كالجمل الأورق يهد الناس بسيفه هدّاً .
فأقبلت هند إلى غلام حبشي فتاك يدعى وحشي وأغرته بالمال على أن يغتال أحد ثلاثة ! إما محمداً ، أو علياً ، أو حمزة . وكانت تقول كلما مرت بوحشي أو مرّ بها : إيه أبا دُسمة ! إشفي واشتفي .
فقال لها : أما محمد فلا حيلة لي به ! فقد أحدق به قومه كالحلقة . وأما علي فإنه إذا قاتل كان أحذر من الغراب ، وأما حمزة فإني أطمع أن أجيبه ، لأنه إذا غضب لم يعد يبصر ما بين يديه .
قال وحشي : إني والله لأنظر إلى حمزة وهو يهدّ الناس بسيفه هدّا ما يلقى أحداً به إلا قتله ، وقتل سباع بن عبد العزى . قال : فهززت حربتي ودفعتها عليه ، فوقعت في ثُنّتِه حتى خرجت من بين رجليه ، وأقبل نحوي فغُلِب ، فوقع .
ولما علمت هند بمصرع حمزة ، لم تكتف بذلك ، بل أقبلت إليه فبقرت بطنه ، وجذبت بيديها كبده وقطعت منها قطعة ووضعتها في فمها وجعلت تلوكها بأسنانها ولكن لم تستطع أن تبتلعها . وقيل : أنها قطعت مذاكيره وأنفه وأذنيه ثم جعلت ذلك مسكتين ومعضدتين . حتى قدمت بذلك مكة ، وقدمت بكبده أيضاً معها (4). ولم يقف هذا الحقد الأعمى عند هند فقط بل تخطاها إلى زوجها ابي سفيان ، فإنه حين مر بحمزة طعنه في شدقه برأس الرمح وهو يقول : ذق عَقَقْ .
حزن النبي على عمه حمزة
وبعد أن انتهت المعركة ، وتفرغ الناس لدفن القتلى ، قال النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : من له علم بعمي حمزة ؟ فقال الحارث بن الصمّة : أنا أعرف موضعه يا رسول الله ! فجاء فوقف عليه فرآه بتلك الحالة التي تركته عليها هند ، فكره أن يرجع الى النبي ويخبره .
فالتفت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى علي ، وقال له : أطلب عمك الحمزة . وأقبل علي نحو عمه ، فلما وقف عليه كره أن يخبر النبي بحاله .
فخرج رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بنفسه حتى وقف عليه ، فلما رآه بتلك الحال بكى ، وقال : والله لن أصاب بمثلك أبدا ، وما وقفت موقفاً قط أغيظ علي من هذا الموقف.
قال ابن مسعود : ما رأينا رسول الله باكياً أشد من بكائه على حمزة ، لقد وقف عليه وأنتحب حتى نشغ (2) من البكاء وهو يقول :
يا عم رسول الله ، وأسد الله وأسد رسوله ، ياحمزة ، يافاعل الخيرات ! يا حمزة ، يا كاشف الكربات ، يا حمزة ، يا ذاب عن وجه رسول الله ، وطال بكائه .
ثم ألقى عليه بردةً كانت عليه ، وكانت إذا مدها على رأسه بدت رجلاه ، وإذا مدّها على رجليه بدا رأسه ، فمدها على رأسه وألقى على رجليه الحشيش . ثم قال : لولا اني أخاف أن تراه صفيّة بتلك الحالة فتجزع ، ويصبح ذلك سُنّةً من بعدي ، لتركته يحشر من أجواف السباع ، وحواصل الطير . ولئن أظهرني الله على قريش لأمثلن بثلاثين من رجالهم ! وفي رواية : بسبعين من خيارهم .
وقال المسلمون ـ لما سمعوا ذلك ـ : لنمثلن بهم مُثلةً لم يُمثلها أحد من العرب ! فانزل الله تعالى هذه الآية : ( وإن عَاقبتُم فعَاقِبُوا بمِثلِ ما عُوقِبتُم ولئِن صبَرتُم لُهوَ خيرٌ للصابِرين ) . فعفى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وصبر ونهى عن المثلة .
وأقبلت صفية بنت عبد المطلب ـ أخت حمزة ـ فالتقت بعلي ( عليه السلام ) فقال لها : إرجعي يا عمة ؛ فإن في الناس تكشفا !
فقالت له : أخبرني عن رسول الله ؟ ! قال : إنه بخير . فقالت دلني عليه ، فأشار إليه إشارةً خفيفة ، فاتجهت صفية نحوه ، ولما طلعت عليه قال النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) للزبير : يا زبير ؛ أغني عني أمك .
في هذه الحالة كان المسلمون يحفرون لحمزة ، وكان النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كارهاً لأن تراه على هذه الحال ، فلقيها الزبير فأعلمها بأمر النبي ، فقالت : إنه بلغني أنه مُثل بأخي ؛ وذلك في الله قليل ! فما أرضانا بما كان في ذلك ؛ لأحتسبنّ ولأصبرن !
فاعلم الزبير النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بذلك ، فقال : خلّ سبيلها . فأتته حتى جلست عنده .
وفي رواية : أنها أقبلت حتى جلست عنده ، فجعلت تبكي والنبي يبكي لبكائها ، وكان معها فاطمة سيدة النساء ، ثم قال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لصفية وفاطمة : أبشرا ! فإن جبرئيل أخبرني أن حَمزة مكتوب في أهل السموات : أسد الله وأسد رسوله .
ثم إن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان كلما أتى بشهيد ليصلي عليه ، ضمّ إليه الحمزة وصلى عليهما !
ولما عاد النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) راجعاً إلى المدينة ، مر في طريقه على بني حارثة ، وبني عبد الأشهل وهم يبكون قتلاهم ، فقال : ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : لكن حمزة لا بواكي له !! (2) فأخذت هذه الكلمة الحزينة مأخذاً من نفوس بعض الصحابة وتركت أثراً عميقاً في قلوبهم ، فمضى سعد بن معاذ مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى بيته ، ثم رجع الى نسائه فساقهُن فلم تبق إمرأة إلا جاء بها إلى بيت رسول الله ، يبكين بين المغرب والعشاء !!
وقام رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بعد أن مضى من الليل الثلث ، فسمع البكاء ، فقال : ما هذا ! ؟
قيل : نساء الأنصار يبكين على حمزة !
فقال : رضي الله عنكن وعن أولادكن ، وأمر النساء أن يرجعن إلى منازلهن .
قالت أم سعد : فرجعنا إلى بيوتنا بعد ثلث الليل ومعنا رجالنا ، فما بكت منا أمرأةُ قط إلا بدأت بالحمزة ! إلى يومنا هذا . ( تتمة الرواية ) .
ذكرى استشهاد الحمزة بن عبدالمطلب في غزوة أحد سنة3هـ في اليوم 14
بعد أن يئس المشركون من أبي طالب، ومن جميع الوسطاء الذين سمعوا للتوفيق بينهم وبين الرسول، بعد أن يئسوا ورأوا أن الإسلام ماض في طريقه والناس يقبلون عليه يوماً بعد يوم، استقر رأيهم على أن يصعدوا حملات التعذيب والإساءة حتى لمحمد (ص) بالشتم وإلقاء الأوساخ والتراب عليه أينما وجدوه، وتعهدت أم جميل من جهتها أن تتحدى محمداً وزوجته الوفية الصادقة في بيتها المجاور لبيتها، فتلقي على باب البيت وفي طريقهما إليه ما عندها من الأوساخ والأحجار وغير ذلك بقصد الإساءة والإيذاء، وزوجها عبد العزى يتعاهده من ناحيته إذا رآه يصلي أو يسير وحده فيلقي عليه ما يجده من الفراث والدم وخلافهما.
وفي ضحوة يوم من الأيام والنبي جالس في طريق المسعى على صخرة نائية يتأمل ويفكر على عادته، وجاريتان لعبد اللّه بن جدعان ولصفية بنت عبد المطلب يتسامران في مكان مطل عليه، وإذا بالحكم بن هشام وهو منحدر إلى البيت يميل إليه فيشتمه ويسخر منه والسفهاء من حوله يتضاحكون، ونظر محمد (ص) إلى أبي جهل وإلى الذين وقفوا من حوله يتضاحكون ويهزؤون وشكاهم بينه وبين نفسه إلى اللّه، ولم يكتف الحكم بذلك فأخذ حفنة من التراب ووضعها على رأسه، ورأت صفية ومولاة ابن جدعان كل ذلك ورقا له وعز عليهما أن يلقي كل ذلك ومع أنهما لم يؤمنا بمحمد بعد فقد غاظهما أنهما لا تستطيعان الدفاع عنه، ونظرت كل واحدة منهما إلى الأخرى والغيظ والأسى باد عليهما ومضتا في طريقهما تتعثران في سيرهما، وما هي إلا خطوات وإذا بالحمزة يقبل من ناحية الجبل وقد عاد من صيده وقوسه في يده متجهاً نحو البيت والناس ينظرون إليه بإكبار وإعجاب، فأقبلتا عليه وابتدرته مولاة ابن جدعان قائلة وصوتها يتقطع من الغيظ، يا أبا عمارة لو رأيت مالقي ابن أخيك محمد من الحكم بن هشام، فقال لها وماذا لقي منه؟ قالت وجده ههنا جالساً فآذاه وسبه وبلغ منه ما يكره، ثم صمتت كأنها لم تعد تملك أن تتكلم من شدة الدهشة، ومضى حمزة يتيم والغضب باد عليه، واعترضته مولاة صفية، فقالت: يا أبا عمارة لقد صب على رأسه التراب، فقال لها حمزة: أنت رأيت ذلك منه؟ قالت نعم، وانطلق الحمزة مغضباً نحو البيت ينحدر كما تنحدر الصخور من الأعالي لا يكلم أحداً ولا يسلم على أحد ودخل المسجد ينظر في وجوه الناس ليرى الحكم بن هشام فرآه جالساً في وسط القوم فاتجه نحوه حتى إذا كان على رأسه، فالتفت إليه الحكم ورآه يرتعد من الغضب فذعر منه، ثم جذب ثوبه، وقال يا أبا عمارة لقد سفه عقولنا وسب آلهتنا وخالف آباءنا.
فقال له الحمزة: ومن أسفه منكم وأنتم تعبدون الحجارة من دون اللّه؟ ثم رفع قوسه وضربه به على رأسه ضربة شجته شجة منكرة، وصرخ فيه صرخة انخلع لها قلبه وقلوب الناس، ثم رد على ذلك أن استطعت فأنا أشهد أن لا إله إلا اللّه وأن محمداً عبده ورسوله، أتشتمه وأنا على دينه؟
وهب رجال من مخزوم لينصروا أبا جهل، وقالوا لحمزة أنك قد صبأت، ورد عليهم الحمزة بقوله: وما يمنعني من ذلك وقد استبان لي منه أنه رسول اللّه جاء بالحق من عند اللّه فامنعوني إن كنتم صادقين، فقال لهم أبو جهل: دعوا أبا عمارة فإني واللّه استمعت ابن أخيه شيئاً يكرهه، ولم يكن أبو جهل ليطأطىء رأسه للمهانة تصيبه في جسمه ونفسه لو لم يكن على يقين بأن حمزة قادر على أن يقهر هؤلاء الرجال الذين تعصبوا له، ورأى أن يصبر ويكف أصحابه حتى لا يوجه إليه الحمزة ومضى هو مزهواً إلى محمد(ص) بعد أن قهر قريشاً يعانقه والدموع تتساقط من عينيه ويقول أشهد أنك رسول اللّه.
وزلزل هذا الحادث قريشاً وأقض مضاجعهم، لا لأن الحمزة قد ضرب أبا جهل وشجه جزاء لما قدمت يداه، بل لأن إسلام الحمزة الذي أعقب هذا الحادث قد منح محمداً وأتباعه شعوراً بالعزة والمنعة والقوة ما كان هذا الشعور ليحصل لو أسلم غيره مائة من الناس.
وأصبح الذين كانوا قد اعتنقوا الإسلام وتستروا في إسلامهم يتجاهرون به بلا حذر أو خوف بعد إسلام الحمزة، وأقبل على الإسلام جماعة من بني هاشم وبني عبد المطلب يدخلون فيه واحداً بعد واحد حتى أصبح أتباع محمد(ص) قوة يخشاهم المشركون،
مقتل الحمزة بن عبد المطلب
كان حمزة بن عبد المطلب من أعظم أبطال العرب المسلمين وشجعانهم ، وكان قد قتل يوم بدر عتبة ـ أبا هند ـ كما قتل اخاها ، وكان يوم أحد كما كان يوم بدر أسد الله وأسد رسوله ، وسيف الله البتار ، يخوض وسط المشركين ، لا يدنو منه أحداً إلا بعجه بسيفه . قال ابن كثير في البداية : انه كان كالجمل الأورق يهد الناس بسيفه هدّاً .
فأقبلت هند إلى غلام حبشي فتاك يدعى وحشي وأغرته بالمال على أن يغتال أحد ثلاثة ! إما محمداً ، أو علياً ، أو حمزة . وكانت تقول كلما مرت بوحشي أو مرّ بها : إيه أبا دُسمة ! إشفي واشتفي .
فقال لها : أما محمد فلا حيلة لي به ! فقد أحدق به قومه كالحلقة . وأما علي فإنه إذا قاتل كان أحذر من الغراب ، وأما حمزة فإني أطمع أن أجيبه ، لأنه إذا غضب لم يعد يبصر ما بين يديه .
قال وحشي : إني والله لأنظر إلى حمزة وهو يهدّ الناس بسيفه هدّا ما يلقى أحداً به إلا قتله ، وقتل سباع بن عبد العزى . قال : فهززت حربتي ودفعتها عليه ، فوقعت في ثُنّتِه حتى خرجت من بين رجليه ، وأقبل نحوي فغُلِب ، فوقع .
ولما علمت هند بمصرع حمزة ، لم تكتف بذلك ، بل أقبلت إليه فبقرت بطنه ، وجذبت بيديها كبده وقطعت منها قطعة ووضعتها في فمها وجعلت تلوكها بأسنانها ولكن لم تستطع أن تبتلعها . وقيل : أنها قطعت مذاكيره وأنفه وأذنيه ثم جعلت ذلك مسكتين ومعضدتين . حتى قدمت بذلك مكة ، وقدمت بكبده أيضاً معها (4). ولم يقف هذا الحقد الأعمى عند هند فقط بل تخطاها إلى زوجها ابي سفيان ، فإنه حين مر بحمزة طعنه في شدقه برأس الرمح وهو يقول : ذق عَقَقْ .
حزن النبي على عمه حمزة
وبعد أن انتهت المعركة ، وتفرغ الناس لدفن القتلى ، قال النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : من له علم بعمي حمزة ؟ فقال الحارث بن الصمّة : أنا أعرف موضعه يا رسول الله ! فجاء فوقف عليه فرآه بتلك الحالة التي تركته عليها هند ، فكره أن يرجع الى النبي ويخبره .
فالتفت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى علي ، وقال له : أطلب عمك الحمزة . وأقبل علي نحو عمه ، فلما وقف عليه كره أن يخبر النبي بحاله .
فخرج رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بنفسه حتى وقف عليه ، فلما رآه بتلك الحال بكى ، وقال : والله لن أصاب بمثلك أبدا ، وما وقفت موقفاً قط أغيظ علي من هذا الموقف.
قال ابن مسعود : ما رأينا رسول الله باكياً أشد من بكائه على حمزة ، لقد وقف عليه وأنتحب حتى نشغ (2) من البكاء وهو يقول :
يا عم رسول الله ، وأسد الله وأسد رسوله ، ياحمزة ، يافاعل الخيرات ! يا حمزة ، يا كاشف الكربات ، يا حمزة ، يا ذاب عن وجه رسول الله ، وطال بكائه .
ثم ألقى عليه بردةً كانت عليه ، وكانت إذا مدها على رأسه بدت رجلاه ، وإذا مدّها على رجليه بدا رأسه ، فمدها على رأسه وألقى على رجليه الحشيش . ثم قال : لولا اني أخاف أن تراه صفيّة بتلك الحالة فتجزع ، ويصبح ذلك سُنّةً من بعدي ، لتركته يحشر من أجواف السباع ، وحواصل الطير . ولئن أظهرني الله على قريش لأمثلن بثلاثين من رجالهم ! وفي رواية : بسبعين من خيارهم .
وقال المسلمون ـ لما سمعوا ذلك ـ : لنمثلن بهم مُثلةً لم يُمثلها أحد من العرب ! فانزل الله تعالى هذه الآية : ( وإن عَاقبتُم فعَاقِبُوا بمِثلِ ما عُوقِبتُم ولئِن صبَرتُم لُهوَ خيرٌ للصابِرين ) . فعفى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وصبر ونهى عن المثلة .
وأقبلت صفية بنت عبد المطلب ـ أخت حمزة ـ فالتقت بعلي ( عليه السلام ) فقال لها : إرجعي يا عمة ؛ فإن في الناس تكشفا !
فقالت له : أخبرني عن رسول الله ؟ ! قال : إنه بخير . فقالت دلني عليه ، فأشار إليه إشارةً خفيفة ، فاتجهت صفية نحوه ، ولما طلعت عليه قال النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) للزبير : يا زبير ؛ أغني عني أمك .
في هذه الحالة كان المسلمون يحفرون لحمزة ، وكان النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كارهاً لأن تراه على هذه الحال ، فلقيها الزبير فأعلمها بأمر النبي ، فقالت : إنه بلغني أنه مُثل بأخي ؛ وذلك في الله قليل ! فما أرضانا بما كان في ذلك ؛ لأحتسبنّ ولأصبرن !
فاعلم الزبير النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بذلك ، فقال : خلّ سبيلها . فأتته حتى جلست عنده .
وفي رواية : أنها أقبلت حتى جلست عنده ، فجعلت تبكي والنبي يبكي لبكائها ، وكان معها فاطمة سيدة النساء ، ثم قال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لصفية وفاطمة : أبشرا ! فإن جبرئيل أخبرني أن حَمزة مكتوب في أهل السموات : أسد الله وأسد رسوله .
ثم إن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان كلما أتى بشهيد ليصلي عليه ، ضمّ إليه الحمزة وصلى عليهما !
ولما عاد النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) راجعاً إلى المدينة ، مر في طريقه على بني حارثة ، وبني عبد الأشهل وهم يبكون قتلاهم ، فقال : ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : لكن حمزة لا بواكي له !! (2) فأخذت هذه الكلمة الحزينة مأخذاً من نفوس بعض الصحابة وتركت أثراً عميقاً في قلوبهم ، فمضى سعد بن معاذ مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى بيته ، ثم رجع الى نسائه فساقهُن فلم تبق إمرأة إلا جاء بها إلى بيت رسول الله ، يبكين بين المغرب والعشاء !!
وقام رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بعد أن مضى من الليل الثلث ، فسمع البكاء ، فقال : ما هذا ! ؟
قيل : نساء الأنصار يبكين على حمزة !
فقال : رضي الله عنكن وعن أولادكن ، وأمر النساء أن يرجعن إلى منازلهن .
قالت أم سعد : فرجعنا إلى بيوتنا بعد ثلث الليل ومعنا رجالنا ، فما بكت منا أمرأةُ قط إلا بدأت بالحمزة ! إلى يومنا هذا . ( تتمة الرواية ) .